فصل: تفسير الآيات رقم (71- 72)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

هذا الكلام متصل بقوله‏:‏ ‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلا يستطيعون سبيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 47، 48‏]‏‏.‏ فإن ذلك ينطوي على ما هو شأن نجواهم من التصميم على العناد والإصرار على الكفر‏.‏ وذلك يسوء النبي ويحزنه أن لا يهتدوا، فوُجه هذا الكلام إليه تسلية له‏.‏ ويدل لذلك تعقيبه بقوله‏:‏ وما أرسلناك عليهم وكيلا‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم‏}‏ على هذا الكنايةُ عن مشيئة هديْه إياهم الذي هو سبب الرحمة، أو مشيئة تركهم وشأنَهم‏.‏ وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها، وما قيل غيره أراه لا يلتئم‏.‏

وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيراً بأن الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شؤون المربوبين بما يليق بحالهم، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أعلم بكم‏}‏ وقعٌ بديع، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء‏.‏

وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما بعدها وهي جملة ‏{‏إن يشأ يرحمكم‏}‏ الآية، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب‏.‏

ومعنى ‏{‏أعلم بكم‏}‏ أعلم بحالكم، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم‏.‏

فجملة ‏{‏إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم‏}‏ مبينة للمقصود من جملة ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏‏.‏

والرحمة والتعذيب مكنًى بهما عن الاهتداء والضلال، بقرينة مقارنته لقوله‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ الذي هو كالمقدمة‏.‏ وسلك سبيل الكناية بهما لإفادة فائدتين‏:‏ صريحهما وكنايتهما، ولإظهار أنه لا يسأل عما يَفعل، لأنه أعلم بما يليق بأحوال مخلوقاته‏.‏ فلما ناط الرحمة بأسبابها والعذابَ بأسبابه، بحكمته وعدله، عُلم أن معنى مشيئته الرحمة أو التعذيب هو مشيئة إيجاد أسبابهما، وفعل الشرط محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ إن يشأ رحمتَكم يرحمْكم أو إن يشأ تعذيبَكم يعذبْكم، على حكم حذف مفعول فعل المشيئة في الاستعمال‏.‏

وجيء بالعطف بحرف ‏(‏أو‏)‏ الدالة على أحد الشيئين لأن الرحمة والتعذيب لا يجتمعان ف ‏(‏أو‏)‏ للتقسيم‏.‏

وذكر شرط المشيئة هنا فائدته التعليم بأنه تعالى لا مكره له، فجمعت الآية الإشارة إلى صفة العلم والحكمة وإلى صفة الإرادة والاختيار‏.‏

وإعادةُ شرط المشيئة في الجملة المعطوفة لتأكيد تسلط المشيئة على الحالتين‏.‏

وجملة ‏{‏وما أرسلناك عليهم وكيلاً‏}‏ زيادة لبيان أن الهداية والضلال من جعل الله تعالى، وأن النبي غير مسؤول عن استمرار من استمر في الضلالة‏.‏ إزالة للحرج عنه فيما يجده من عدم اهتداء من يدعوهم، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان وإنما أرسلناك داعياً‏.‏

والوكيل على الشيء‏:‏ هو المسؤول به‏.‏ والمعنى‏:‏ أرسلناك نذيراً وداعياً لهم وما أرسلناك عليهم وكيلاً، فيفيد معنى القصر لأن كونه داعياً ونذيراً معلوم بالمُشاهدة فإذا نفي عنه أن يكون وكيلاً وملجئاً آل إلى معنى‏:‏ ما أنت إلا نذير‏.‏

وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى المشركين، كما عادت إليهم ضمائر ‏{‏على قلوبهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏ وما بعده من الضمائر اللائقة بهم‏.‏

وعليهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏وكيلا‏}‏‏.‏ وقدم على متعلقه للاهتمام وللرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

تماثل القرينتين في فاصلتيْ هذه الآية من كلمة ‏{‏والأرض‏}‏ وكلمة ‏{‏على بعض‏}‏، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض، وأن ليس قوله‏:‏ ‏{‏وربك أعلم بمن في السماوات والأرض‏}‏ تكملة لآية ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ الآية‏.‏

وتغيير أسلوب الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وربك أعلم‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شؤون النبي التي لها مزيد اختصاص به، تقفية على إبطال أقوال المشركين في شؤون الصفات الإلهية، بإبطال أقوالهم في أحوال النبي‏.‏ ذلك أن المشركين لم يقبلوا دعوة النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم، وقالوا‏:‏ أبعث الله يتيم أبي طالب رسولاً، أبعث الله بشراً رسولاً، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله‏:‏ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض‏}‏ فهو العالم حيث يجعل رسالته‏.‏

وكان قوله‏:‏ ‏{‏وربك أعلم بمن في السماوات والأرض‏}‏ كالمقدمة لقوله‏:‏ ‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيئين‏}‏ الآية‏.‏ أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمستأهل للرسالة بحسب ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك، كما قال الله تعالى عنهم ‏{‏قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم؛ لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ وذلك يثير أحوالاً جمة من العصور والرجال والأمم أحياءً وأمواتاً‏.‏ فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله‏:‏ بمن في السماوات والأرض‏}‏، وهو أيضاً كالمقدمة لجملة ‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض‏}‏، مشيراً إلى أن تفاضل الأنبياء ناشئ على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل‏.‏ وهذا إيجاز تضمن إثباتَ النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره، وتعدّدَ الأنبياء مما يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل، وإثباتَ التفاضل بين الأفراد من البشر، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم، وإثباتَ التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل‏.‏ وتقرر ذلك فيما مضى تقرراً لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنةً إلهية مقررة لا نكران لها‏.‏ فعلم أن طعنهم في نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم طعن مكابرة وحسد‏.‏ كما قال تعالى في شأن اليهود ‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً‏}‏

في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وتخصيص داوود عليه السلام بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب «الكشاف» ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون‏.‏ وهذا حسن‏.‏ وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيراً من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها، وأن التفضيل بالنبوءة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة؛ فإن داوود عليه السلام كان راعياً من رعاة الغنم في بني إسرائيل، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داوود لمحاربة جالوت الكنعاني، فلما قَتل داوودُ جالوتَ آتاه الله النبوءة وصيره ملِكاً لإسرائيل، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة‏.‏

وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم وينتصرون عليهم لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفاً‏.‏ وقد أوتي داوود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتاباً بعد موسى عليه السلام‏.‏

وذكر داوود تقدم في سورة الأنعام وفي آخر سورة النساء‏.‏

وأما الزبور فذكر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا داوود زبورا‏}‏ في آخر سورة ‏[‏النساء‏:‏ 163‏.‏

والزبور‏:‏ اسم لمجموع أقوال داوود عليه السلام التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

لم أر لهذه الآية تفسيراً ينثلج له الصدر، والحيرة بادية على أقوال المفسرين في معناها وانتظام موقعها مع سابقها، ولا حاجة إلى استقراء كلماتهم‏.‏ ومرجعها إلى طريقتين في محمل ‏{‏الذين زعمتم من دونه‏}‏ إحداهما في «تفسير الطبري» وابن عطية عن ابن مسعود والحسن‏.‏ وثانيتهما في «تفسير القرطبي» والفخر غير معزوة لقائل‏.‏

والذي أرى في تفسيرها أن جملة ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دونه‏}‏ إلى ‏{‏تحويلاً‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيئين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏ وجملة ‏{‏أولئك الذين يدعون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وذلك أنه لما جرى ذكر الأفضلين من الأنبياء في أثناء آية الرد على المشركين مقالتهم في اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة واصطفاء أتباعه لولايته ودينه، وهي آية ‏{‏وربك أعلم بمن في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏ إلى آخرها، جاءت المناسبة لرد مقالة أخرى من مقالاتهم الباطلة وهي اعتذارهم عن عبادة الأصنام بأنهم ما يعبدونهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، فجعلوهم عباداً مقربين ووسائل لهم إلى الله، فلما جرى ذكر المقربين حقاً انتُهزت مناسبة ذكرهم لتكون مخلصاً إلى إبطال ما ادعوه من وسيلة أصنامهم على عادة إرشاد القرآن من اغتنام مناسبات الموعظة، وذلك من أسلوب الخطباء‏.‏ فهذه الآية متصلة المعنى بآية ‏{‏قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏‏.‏ فبعد أن أبطل أن يكون مع الله آلهة ببرهان العقل عاد إلى إبطال إلهيتهم المزعومة ببرهان الحسّ‏.‏ وهو مشاهدة أنها لا تغني عنهم كشف الضر‏.‏

فأصل ارتباط الكلام هكذا‏:‏ ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض وآتينا داوود زبورا أولئك الذين يدعون يبتغون الآية‏.‏ فبمناسبة الثناء عليهم بابتهالهم إلى ربهم ذكر ضد ذلك من دعاء المشركين آلهتهم‏.‏ وقدم ذلك، على الكلام الذي أثار المناسبة، اهتماماً بإبطال فعلهم ليكون إبطاله كالغرض المقصود ويكون ذكر مقابله كالاستدلال على ذلك الغرض‏.‏ ولعل هذه الآية نزلت في مدة إصابة القحط قريشاً بمكّة، وهي السبع السنون التي هي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف ‏"‏ وتسلسل الجدال وأخذ بعضه بحُجز بعض حتى انتهى إلى هذه المناسبة‏.‏

والمِلْكُ بمعنى الاستطاعة والقدرة كما في قوله‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والمقصود من ذلك بيان البون بين الدعاء الحق والدعاء الباطل‏.‏ ومن نظائر هذا المعنى في القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن وَلِيّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولَّى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 196 197‏]‏‏.‏

والكشف‏:‏ مستعار للإزالة‏.‏

والتحويل‏:‏ نقل الشيء من مكان إلى مكان، أي لا يستطيعون إزالة الضر عن الجميع ولا إزالته عن واحد إلى غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

والإشارة ب ‏{‏أولئك الذين يدعون‏}‏ إلى النبيئين لزيادة تمييزهم‏.‏

والمعنى‏:‏ أولئك الذين إنْ دعوا يُستجَبْ لهم ويكشف عنهم الضر، وليسوا كالذين تدعونهم فلا يملكون كشف الضر عنكم بأنفسهم ولا بشفاعتهم عند الله كما رأيتم من أنهم لم يغنوا عنكم من الضر كشفاً ولا صرفاً‏.‏

وجملة ‏{‏يبتغون‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يدعون‏}‏ أو بيان لجملة ‏{‏يدعون‏}‏‏.‏

والوسيلة‏:‏ المرتبة العالية القريبة من عظيم كالمَلك‏.‏

و ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ يجوز أن يكون بدلاً من ضمير ‏{‏يبتغون‏}‏ بدل بعض، وتكون ‏(‏أي‏)‏ موصولة‏.‏ والمعنى‏:‏ الذي هو أقرب من رضى الله يبتغي زيادة الوسيلة إليه، أي يزداد عملاً للازدياد من رضى الله عنه واصطفائه‏.‏

ويجوز أن يكون بدلاً من جملة ‏{‏يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏}‏، و‏(‏أي‏)‏ استفهامية، أي يبتغون معرفة جواب‏:‏ أيهم أقرب عند الله‏.‏

وأقرب‏:‏ اسم تفضيل، ومتعلقه محذوف دل عليه السياق‏.‏ والتقدير‏:‏ أيهم أقرب إلى ربهم‏.‏

وذكر خوف العذاب بعد رجاء الرحمة للإشارة إلى أنهم في موقف الأدب مع ربهم فلا يزيدهم القرب من رضاه إلا إجلالاً له وخوفاً من غضبه‏.‏ وهو تعريض بالمشركين الذين رَكبوا رؤوسهم وتوغلوا في الغرور فزعموا أن شركاءهم شفعاؤهم عند الله‏.‏

وجملة ‏{‏إن عذاب ربك كان محذوراً‏}‏ تذييل‏.‏ ومعنى ‏{‏كان محذورا‏}‏ أن حقيقته تقتضي حذر الموفقين إذ هو جدير بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

لما عرضَ بالتهديد للمشركين في قوله‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك كان محذورا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏، وتحداهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56‏]‏ جاء بصريح التهديد على مسمع منهم بأن كل قرية مثل قريتهم في الشرك لا يعدوها عذاب الاستيصال وهو يأتي على القرية وأهلها، أو عذاب الانتقام بالسيف والذل والأسر والخوف والجوع وهو يأتي على أهل القرية مثل صرعى بدر، كل ذلك في الدنيا‏.‏ فالمراد‏:‏ القرى الكافرُ أهلُها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 117‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون‏}‏ في سورة ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وحذف الصفة في مثل هذا معروف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ أي كل سفينة صالحة، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وليس المقصود شمول ذلك القرى المؤمنة، على معنى أن لا بد للقرى من زوال وفناء في سنة الله في هذا العالم، لأن ذلك معارض لآيات أخرى، ولأنه مناف لغرض تحذير المشركين من الاستمرار على الشرك‏.‏

فلو سلمنا أن هذا الحكم لا تنفلت منه قرية من القرى بحكم سنّة الله في مصير كل حادث إلى الفناء لما سلمنا أن في ذكر ذلك هنا فائدة‏.‏

والتقييد بكونه قبل يوم القيامة‏}‏ زيادة في الإنذار والوعيد، كقوله‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة أشد وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 127‏]‏‏.‏

و ‏(‏من‏]‏ مزيدة بعد ‏(‏إنْ‏)‏ النافية لتأكيد استغراق مدخولها باعتبار الصفة المقدرة، أي جميع القرى الكافرة كيلا يحسب أهلُ مكة عدم شمولهم‏.‏

والكتاب‏:‏ مستعار لعلم الله وسابق تقديره، فتعريفه للعهد؛ أو أريد به الكتب المنزلة على الأنبياء، فتعريفه للجنس فيشمل القرآن وغيره‏.‏

والمسطور‏:‏ المكتوب، يقال‏:‏ سطر الكتاب إذا كتبه سطوراً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والقلم وما يسطرون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالايات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏

هذا كشف شبهة أخرى من شبه تكذيبهم إذ كانوا يسألون النبي أن يأتيهم بآيات على حسب اقتراحهم، ويقولون‏:‏ لو كان صادقاً وهو يطلب منا أن نؤمن به لجاءنا بالآيات التي سألناه، غروراً بأنفسهم أن الله يتنازل لمباراتهم‏.‏

والجملة معطوفة على جملة ‏{‏وإن من قرية إلا نحن مهلكوها‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 58‏]‏، أي إنما أمهلنا المتمردين على الكفر إلى أجل نزول العذاب ولم نجبهم إلى ما طلبوا من الآيات لعدم جدوى إرسال الآيات للأولين من قبيلهم في الكفر على حسب اقتراحهم فكذبوا بالآيات‏.‏

وحقيقة المنع‏:‏ كف الفاعل عن فعل يريد فعله أو يسعى في فعله، وهذا محال عن الله تعالى إذ لا مكره للقادر المختار‏.‏ فالمنع هنا مستعار للصرف عن الفعل وعدم إيقاعه دون محاولة إتيَانِه‏.‏

والإرسال يجوز أن يكون حقيقة فيكون مفعول ‏{‏أن نرسل‏}‏ محذوفاً دل عليه فعل ‏{‏نرسل‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ أن نرسل رسولَنا، فالباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالآيات‏}‏ للمصاحبة، أي مصاحباً للآيات التي اقترحها المشركون‏.‏ ويجوز أن يكون الإرسال مستعاراً لإظهار الآيات وإيجادها، فتكون الباء مزيدة لتأكيد تعلق فعل ‏{‏نرسل بالآيات‏}‏، وتكون ‏{‏بالآيات‏}‏ مفعولاً في المعنى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والتعريف في بالآيات‏}‏ على كلا الوجهين للعهد، أي المعهودة من اقتراحهم كقولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏، ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ و‏{‏قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ و‏{‏قالوا لن نؤمن حتى نوتَى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ على أحد التأويلين‏.‏

و ‏(‏أن‏)‏ الأولى مفيدة مصدراً منصوباً على نزع الخافض‏}‏، وهو ‏(‏مِن‏)‏ التي يتعدى بها فعل المنع، وهذا الحذف مطرد مع ‏(‏أن‏)‏‏.‏

و ‏(‏أن‏)‏ الثانية مصدرها فاعل منعنا‏}‏ على الاستثناء المفرغ‏.‏

وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين بالآيات مجاز عقلي لأن التكذيب سبب الصرف‏.‏

والمعنى‏:‏ أننا نعلم أنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن من قبلهم من الكفرة لما جاءتهم أمثال تلك الآيات‏.‏ فعلم الناس أن الإصْرار على الكفر سجية للمشرك لا يقلعها إظهار الآيات، فلو آمن الأولون عندما أظهرت لهم الآيات لكان لهؤلاء أن يجعلوا إيمانهم موقوفاً على إيجاد الآيات التي سألوها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96 97‏]‏‏.‏

والأظهر أن هذا تثبيت لأفئدة المؤمنين لئلا يفتنهم الشيطان، وتسلية للنبيء لحرصه على إيمان قومه فلعله يتمنى أن يجيبهم الله لما سألوا من الآيات ولحزنه من أن يظنوه كاذباً‏.‏

وجملة وآتينا ثمود الناقة‏}‏ في محل الحال من ضمير الجلالة في ‏{‏منعنا‏}‏، أي وقد آتينا ثموداً آية كما سألوه فزادوا كفراً بسببها حتى عجل لهم العذاب‏.‏

ومعنى ‏{‏مبصرة‏}‏ واضحة الدلالة، فهو اسم فاعل أبصر المتعدي إلى مفعول، أي جعل غيرَه مُبصراً وذا بصيرة‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنها مفيدة البصيرة، أي اليقين، أي تجعل من رآها ذا بصيرة وتفيدهُ أنها آية‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وخص بالذكر ثمود وآيتها لشهرة أمرهم بين العرب، ولأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبَة من أهل مكة يبصرها صادرهم وواردهم في رحلاتهم بين مكة والشام‏.‏

وقوله‏:‏ فظلموا بها‏}‏ يجوز أن يكون استُعمل الظلم بمعنى الكُفر لأنه ظلم النفس، وتكون الباء للتعدية لأن فعل الكفر يعدى إلى المكفور بالباء‏.‏ ويجوز أن يكون الظلم مضمناً معنى الجحد، أي كابروا في كونها آية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ويجوز بقاء الظلم على حقيقته، وهي الاعتداء بدون حق، والباء صلة لتوكيد التعدية مثل الباء في ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، أي ظلموا الناقة حينَ عَقَروها وهي لم تجن عليهم، فكان عقرها ظلماً‏.‏ والاعتداء على العجماوات ظلم إذا كان غير مأذون فيه شرعاً كالصيد‏.‏

هذا بيان لحكمة أخرى في ترك إرسال الآيات إلى قريش، تشير إلى أن الله تعالى أراد الإبقاء عليهم ليدخل منهم في الإسلام كثير ويكون نشر الإسلام على يد كثير منهم‏.‏

وتلك مكرمة للنبيء صلى الله عليه وسلم فلو أرسل الله لهم الآيات كما سألوا مع أن جبلتهم العناد لأصروا على الكفر فحقت عليهم سنّة الله التي قد خلت في عباده وهي الاستئصال عقب إظهار الآيات، لأن إظهار الآيات تخويف من العذاب والله أراد الإبقاء على هذه الأمة قال‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ الآية، فعوضنا تخويفهم بدلاً عن إرسال الآيات التي اقترحوها‏.‏

والقول في تعدية وما نرسل بالآيات‏}‏ كالقول في ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات‏}‏ معنى وتقديراً على الوجهين‏.‏

والتخويف‏:‏ جعل المرء خائفاً‏.‏

والقصر في قوله‏:‏ ‏{‏إلا تخويفاً‏}‏ لقصر الإرسال بالآيات على علة التخويف، وهو قصر إضافي، أي لا مباراة بين الرسل وأقوامهم أو لا طمعاً في إيمان الأقوام فقد علمنا أنهم لا يؤمنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس‏}‏

هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على حزنه من تكذيب قومه إياه، ومن إمهال عتاة أعداء الدين الذين فتنوا المؤمنين، فذكره الله بوعده نصرَه‏.‏

وقد أومأ جَعْلُ المسند إليه لفظ الرب مضافاً إلى ضمير الرسول أن هذا القول مسوق مساق التكرمة للنبيء وتصبيره، وأنه بمحل عناية الله به إذ هو ربه وهو ناصره؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏

فجملة وإذ قلنا لك‏}‏ الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ ويجوز أن تكون معترضة‏.‏

و ‏(‏إذ‏)‏ متعلقة بفعل محذوف، أي اذكُرْ إذ قلنا لك كلاماً هو وعد بالصبر، أي اذكر لهم ذلك وأعدهُ على أسماعهم، أو هو فعل اذكر‏}‏ على أنه مشتق من الذُّكر بضم الذال وهو إعادة الخبر إلى القوة العقلية الذاكرة‏.‏

والإحاطة لما عدي فعلها هنا إلى ذاتتِ الناس لا إلى حال من أحوالهم تعين أنها مستعملة في معنى الغلبة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظنوا أنهم أحيط بهم‏}‏ في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وعُبِّرَ بصيغة المضي للتنبيه على تحقيق وقوع إحاطة الله بالناس في المستقبل القريب‏.‏ ولعل هذا إشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ فلا تحزن لافترائهم وتطاولهم فسننتقم منهم‏.‏

عطف على جملة ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ وما بينهما معترضات‏.‏

والرؤيا أشهر استعمالها في رؤيا النوم، وتستعمل في رؤية العين كما نقل عن ابن عباس في هذه الآية، قال‏:‏ هي رؤيا عَيْن أريها النبي ليلة أسري به إلى بيت المقدس، رواه الترمذي وقال‏:‏ إنه قول عائشة ومعاوية وسبعة من التابعين، سماهم الترمذي‏.‏ وتأولها جماعة أنها ما رآه ليلة أسري به إذ رأى بيت المقدس وجعل يصفه للمشركين، ورأى عِيرَهم واردة في مكان معين من الطريق ووصف لهم حال رجال فيها فكان كما وصف‏.‏ ويؤيد هذا الوجه قوله‏:‏ التي أريناك‏}‏ فإنه وصف للرؤيا ليُعلم أنها رؤية عين‏.‏ وقيل‏:‏ رأى أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرده المشركون فلم يدخلها فافتتن بعض من أسلموا فلما كان العام المقبل دخلها‏.‏

وقيل‏:‏ هي رؤيا مصارع صناديد قريش في بَدر أريها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أي بمكة‏.‏ وعى هذين القولين فهي رؤيا نوم ورؤيا الأنبياء وحي‏.‏

والفتنة‏:‏ اضطراب الرأي واختلال نظام العيش، وتطلق على العذاب المكرر الذي لا يطاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يوم هم على النار يفتنون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13‏]‏‏.‏ فيكون المعنى على أول القولين في الرؤيا أنها سبب فتنة المشركين بازدياد بعدهم عن الإيمان، ويكون على القول الثاني أن المرئي وهو عذابهم بالسيف فتنة لهم‏.‏

‏{‏والشجرة‏}‏ عطف على الرؤيا، أي ما جعلنا ذكر الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس‏.‏ وهذا إشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون‏}‏ في سورة ‏[‏الصافات‏:‏ 64، 66‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الآية‏}‏ في سورة ‏[‏الدخان‏:‏ 43، 44‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم‏}‏ في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 51، 52‏]‏‏.‏

روي أن أبا جهل قال‏:‏ زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر؛ ثم يقول بأن في النار شجرة لا تحرقها النار‏.‏ وجهلوا أن الله يخلق في النار شجرة لا تأكلها النار‏.‏ وهذا مروي عن ابن عباس وأصحابه في أسباب النزول‏}‏ للواحدي و«تفسير الطبري»‏.‏ وروي أن ابن الزبعرى قال‏:‏ الزقوم التمر بالزبد بلغة اليمن، وأن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه‏:‏ تمزقوا‏.‏ فعلى هذا التأويل فالمعنى‏:‏ أن شجرة الزقوم سبب فتنة مكفرهم وانصرافهم عن الإيمان‏.‏ ويتعين أن يكون معنى جعل شجرة الزّقوم فتنة على هذا الوجه أن ذكرها كان سببَ فتنة بحذف مضاف وهو ذكر بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏الملعونة في القرآن‏}‏ لأن ما وصفت به في آيات القرآن لعْن لها‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أن إيجادها فتنة‏.‏ أي عذاب مكرر، كما قال‏:‏ ‏{‏إنا جعلناها فتنة للظالمين‏}‏ ‏[‏الصافّات‏:‏ 63‏]‏‏.‏

والملعونة أي المذمومة في القرآن في قوله‏:‏ طعام الأثيم ‏[‏الدخان‏:‏ 44‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏طلعها كأنه رؤوس الشياطين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 65‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 45 46‏]‏‏.‏ وقيل معنى الملعونة‏:‏ أنها موضوعة في مكان اللعنة وهي الإبعاد من الرحمة، لأنها مخلوقة في موضع العذاب‏.‏ وفي الكشاف‏}‏‏:‏ قيل تقول العرب لكل طعام ضار‏:‏ ملعون‏.‏

عطف على جملة ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ الدال على أنهم متصلبون في كفرهم مكابرون معاندون‏.‏ وهذه زيادة في تسلية النبي حتى لا يأسف من أن الله لم يرهم آيات، لأن النبي حريص على إيمانهم، كما قال موسى عليه السلام ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏‏.‏

ويوجد في بعض التفاسير أن ابن عباس قال‏:‏ في الشجرة الملعونة بنو أمية‏.‏ وهذا من الأخبار المختلقة عن ابن عباس، ولا إخالها إلا مما وضعه الوضاعون في زمن الدعوة العباسية لإكثار المنفرات من بني أمية، وأن وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة وهي شجرة الزقوم كما علمت‏.‏ ومثل هذا الاختلاق خروج عن وصايا القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وجيء بصيغة المضارع في نُخوِّفهم‏}‏ للإشارة إلى تخويف حاضر، فإن الله خوفهم بالقحط والجوع حتى رأوا الدخان بين السماء والأرض وسألوا الله كشفه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏ فذلك وغيره من التخويف الذي سبق فلم يزدهم إلا طغياناً‏.‏ فالظاهر أن هذه الآية نزلت في مدة حصول بعض المخوفات‏.‏

وقد اختير الفعل المضارع في نخوفهم‏}‏ و‏{‏يزيدهم‏}‏ لاقتضائه تكرر التخويف وتجدده، وأنه كلما تجدد التخويف تجدد طغيانهم وعظم‏.‏

والكبير‏:‏ مستعار لِمعنى الشديد القوى في نوع الطغيان‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل قتال فيه كبير‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ أي واذكر إذ قلنا للملائكة‏.‏ والمقصود من هذا هو تذكير النبي بما لقي الأنبياء قبله من معاندة الأعداء والحسدة من عهد آدم حين حسده إبليس على فضله‏.‏ وأنهم لا يَعدمون مع ذلك معترفين بفضلهم وهم خيرة زمانهم كما كانت الملائكة نحو آدم عليه السلام، وأن كلا الفريقين في كل عصر يمُتّ إلى أحد الفريقين الذي في عهد آدم، فلفريق الملائكة المؤمنون ولفريق الشيطان الكافرون، كما أومَأ إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال اذهب فمن تبعك منهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 63‏]‏ الآية، ففي ذلك تسلية للنبيء عليه الصلاة والسلام‏.‏ فأمْرُ الله نبيئه بأن يذكر ذلك يتضمن تذكيره إياه به، وذكر النبي ذلك موعظةٌ للناس بحال الفريقين لينظر العاقل أين يضع نفسه‏.‏

وتفسير قصة آدم وبيان كلماتها مضى في سورة البقرة وما بعدها‏.‏

والاستفهام في أأسجد‏}‏ إنكار، أي لا يكون‏.‏

وجملة ‏{‏قال أأسجد‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن استثناء إبليس من حكم السجود لم يفد أكثر من عدم السجود‏.‏ وهذا يثير في نفس السامع أن يسأل عن سبب التخلف عن هذا الحكم منه، فيجاب بما صدر منه حين الاتصاف بعدم السجود أنه عصيان لأمر الله ناشئ عن جهله وغروره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏طيناً‏}‏ حال من اسم الموصول، أي الذي خلقته في حال كونه طيناً، فيفيد معنى أنك خلقته من الطين‏.‏ وإنما جعل جنس الطين حالاً منه للإشارة إلى غلبة العنصر الترابي عليه لأن ذلك أشد في تحقيره في نظر إبليس‏.‏

وجملة ‏{‏قال أرأيتك‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏أأسجد لمن خلقت طيناً‏}‏ باعتبار ما تشتمل عليْه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله‏.‏ فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله‏:‏ ‏{‏أرأيتك‏}‏ المفيد الإنكار‏.‏ وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته، ولذلك فصلت جملة ‏{‏قال أرأيتك‏}‏ عن جملة ‏{‏قال أأسجد‏}‏ كما وقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏‏.‏

وأرأيتك‏}‏ تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به‏.‏ ومعناه‏:‏ أخبرني عما رأيت، وهو مركب من همزة استفهام، و‏(‏رأى‏)‏ التي بمعنى علم وتاء المخاطب المفرد المرفوع، ثم يزاد على ضمير الخطاب كافُ خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحداً أو متعدداً‏.‏ يقال‏:‏ أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع، وهو يشبه التوكيد اللفظي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الكاف ضمير نصب، والتركيب‏:‏ أرأيتَ نفسك‏.‏ وهذا أقرب للاستعمال، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضميرُ فاعلها نحو قول طرفة

فما لي أراني وابنَ عمي مالكاً *** مَتى أدْنُ منه ينأ عني ويبَعَد

أي أرى نفسي‏.‏

واسم الإشارة مستعمل في التحقير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ والمعنى أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته عليّ بلا وجه‏.‏

وجملة لئن أخرتن إلى يوم القيامة‏}‏ الخ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، وهي جملة قَسَمية، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط، والخبرُ مستعمل في الدعاء فهو في معنى قوله‏:‏ ‏{‏قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وهذا الكلام صدر من إبليس إعراباً عما في ضميره وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه‏.‏

وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة وأنه يُغوي كثيراً من البشر ويَسلَم منه قليل منهم‏.‏

وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ولم يذكر إغواءَ آدم وهو أولى بالذكر إذ آدم هو أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أعوَى آدم وأخرج من الجنة فقد شفَى غليله منه وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشيطان لكم عدو‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والاحتناك‏:‏ وضع الراكب اللجامَ في حَنَك الفرس ليركَبه ويَسيّره، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفَرس على حب ما يريد راكبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

جواب من الله تعالى عن سؤال إبليس التأخير إلى يوم القيامة، ولذلك فصلت جملة ‏{‏قال‏}‏ على طريقة المحاورات التي ذكرناها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والذهاب ليس مراداً به الانصراف بل هو مستعمل في الاستمرار على العمل، أي امض لشأنك الذي نويته‏.‏ وصيغة الأمر مستعملة في التسوبة وهو كقول النبهاني من شعراء الحماسة‏:‏

فإن كنتَ سيدنا سُدتَنا *** وإن كنتَ للخال فاذْهَبْ فخَلْ

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن تبعك منهم‏}‏ تفريع على التسوية والزجر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 97‏]‏‏.‏

والجزاء‏:‏ مصدر جزاه على عمل، أي أعطاه عن عمله عوضاً‏.‏ وهو هنا بمعنى اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق‏.‏

والموفور‏:‏ اسم مفعول من وفره إذا كثّره‏.‏

وأعيد جزاء‏}‏ للتأكيد، اهتماماً وفصاحةً، كقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه قرآناً عربياً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏، ولأنه أحسن في جريان وصف الموفور على موصوف متصل به دون فصل‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ فإن جهنم جزاؤكم موفوراً‏.‏ فانتصاب جزاء‏}‏ على الحال الموطئة، و‏{‏موفوراً‏}‏ صفة له، وهو الحال في المعنى، أي جزاء غير منقوص‏.‏

والاستفزاز‏:‏ طلب الفَزّ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل‏.‏ والسين والتاء فيه للجَعل الناشئ عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء، أي استخفهم وأزعجهم‏.‏

والصوت‏:‏ يطلق على الكلام كثيراً، لأن الكلام صوت من الفم‏.‏ واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس‏.‏ ويجوز أن يكون مستعملاً هنا تمثيلاً لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏وأجلب عليهم بخيلك‏}‏ كما سيأتي‏.‏

والإجْلاب‏:‏ جَمْع الجيش وسوقه، مشتق من الجَلَبة بفتحتين، وهي الصياح، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم‏.‏

والخيل‏:‏ اسم جمع الفَرس‏.‏ والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «يا خيلَ الله اركبي» وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته‏.‏‏.‏

ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏واستفزز من استطعت منهم بصوتك‏}‏ من جملة هذا التمثيل‏.‏

والرّجْل‏:‏ اسم جمع الرجال كصحب‏.‏ وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعاً‏.‏ قال أنيْف بن زَبان النّبْهاني‏:‏

وتحت نحور الخيل حرشف رَجْلة *** تتاح لحبات القلوب نبالها

ثم قال‏:‏

فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا *** لسائلةٍ عنا حَفِيّ سؤالُها

والمعنى‏:‏ أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم‏.‏ فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوماً بجيش عظيم من فرسان ورجالة‏.‏

وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏ورجلك‏}‏ بكسر الجيم، وهو لغة في رَجُل مضموم الجيم، وهو الواحد من الرجال‏.‏ والمراد الجنس‏.‏ والمعنى‏:‏ بخيلك ورجالك، أي الفرسان والمشاة‏.‏

والباء في ‏{‏بخيلك‏}‏ إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد‏.‏ ومجرورها مفعول في المعنى لفعل ‏{‏أجلب‏}‏ مثل ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏؛ وإما لتضمين فعل أجلب‏}‏ معنى ‏(‏اغزُهم‏)‏ فيكون الفعل مضمناً معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة‏.‏

والمشاركة في الأموال‏:‏ أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي أنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيباً في النتاج والحرث للأصنام‏.‏ وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏‏.‏

وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى، وأن يُسمّوهم بعبدة الأصنام، كقولهم‏:‏ عبد العُزى، وعبد اللات، وزيد مناة، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم‏.‏

ومعنى عِدْهُمْ‏}‏ أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلِم الآباء من الثكل والأولادُ من الأمراض، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء، كما قال أبو سفيان يوم أحُد «أعْلُ هبل»‏.‏ ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذاباً بعد الموت لإنكار البعث، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏وعدهم‏}‏ للتعميم في الموعود به‏.‏ والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب‏.‏ وسماه وعداً لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل‏.‏

ولذلك اعترض بجملة ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏‏.‏

والغرور‏:‏ إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 196‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏زخرف القول غرورا‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غروراً لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود بالعاقبة، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آيلاً إليه بالإضرار‏.‏ وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب إحياء علوم الدين‏.‏

وإظهار اسم الشيطان في قوله‏:‏ وما يعدهم الشيطان‏}‏ دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملةٍ أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

وجملة ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ من تمام الكلام المحكي ب ‏{‏قال اذهب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وهي جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله‏:‏ ‏{‏فمن تبعك منهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 63‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واستفزز من استطعت منهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏، فإن مفهوم ‏{‏من تبعك‏}‏ و‏{‏من استطعت‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏ ذريّة من قبيل مفهوم الصفة فيفيد أن فريقاً من درية آدم لا يتبع إبليس فلا يحتنكه‏.‏ وهذا المفهوم يفيد أن الله قد عصم أو حفظ هذا الفريق من الشيطان، وذلك يثير سؤالاً في خاطر إبليس ليعلم الحائل بينه وبين ذلك الفريق بعد أن علم في نفسه علماً إجمالياً أن فريقاً لا يحتنكه لقوله‏:‏ ‏{‏لأحتنكن ذريته إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏‏.‏ فوقعت الإشارة إلى تعيين هذا الفريق بالوصف وبالسبب‏.‏

فأما الوصف ففي قوله‏:‏ عبادي‏}‏ المفيد أنهم تمحضوا لعبودية الله تعالى كما تدل عليه الإضافة، فعلم أن من عبدوا الأصنام والجن وأعرضوا عن عبودية الله تعالى ليسوا من أولئك‏.‏

وأما السبب ففي قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بربك وكيلاً‏}‏ المفيد أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان، فكان خير وكيل لهم إذ حاطهم من الشيطان وحفظهم منه‏.‏

وفي هذا التوكل مراتب من الانفلات عن احتناك الشيطان، وهي مراتب المؤمنين من الأخذ بطاعة الله كما هو الحق عند أهل السنّة‏.‏

فالسلطان المنفي في قوله‏:‏ ‏{‏ليس لك عليهم سلطان‏}‏ هو الحكم المستمر بحيث يكونون رعيته ومن جنده‏.‏ وأما غيرهم فقد يستهويهم الشيطان ولكنهم لا يلبثون أن يثوبوا إلى الصالحات، وكفاك من ذلك دوام توحيدهم لله، وتصديقهم رسوله، واعتبارهم أنفسهم عباداً لله متطلبين شكر نعمته، فشتان بينهم وبين أهل الشرك وإن سخفت في شأنهم عقيدَةُ أهل الاعتزال‏.‏ وقد تقدم معنى هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون‏}‏ في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 99 100‏]‏‏.‏

فالمؤمن لا يتولى الشيطانَ أبداً ولكنه قد ينخدع لوسواسه، وهو مع ذلك يلعنه فيما أوقعه فيه من الكبائر، وبمقدار ذلك الانخداع يقترب من سلطانه‏.‏ وهذا معنى قول النبي في خطبة حجة الوداع‏:‏ إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم‏.‏

فجملة وكفى بربك وكيلاً‏}‏ يجوز أن تكون تكملة لتوبيخ الشيطان، فيكون كاف الخطاب ضمير الشيطان تسجيلاً عليه بأنه عبدُ الله، ويجوز أن تكون معترضة في آخر الكلام فتكون كاف الخطاب ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً للنبيء بالإضافة إلى ضمير الله‏.‏ ومآل المعنى على الوجهين واحد وإن اختلف الاعتبار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي وهو عوْد إلى تقرير أدلة الانفراد بالتصريف في العالم المشوبة بما فيها من نعم على الخلق، والدالة بذلك الشوب على إتقان الصنع ومحكم التدبير لنظام هذا العالم وسيادة الإنسان فيه وعليه‏.‏ ويشبه أن يكون هذا الكلام عوداً إلى قوله‏:‏ ‏{‏ويدعُ الإنسان بالشر دعاءه بالخير‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏ كما تقدم هناك فراجعه‏.‏ فلما جرى الكلام على الإنذار والتحذير أعقب هنا بالاستدلال على صحة الإنذار والتحذير‏.‏

والخطاب لجماعة المشركين كما يقتضيه قوله عقبه‏:‏ ‏{‏فلما نجاكم إلى البر أعرضتم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏، أي أعرضتم عن دعائه ودعوتم الأصنام، وقولُه‏:‏ ‏{‏ضل من تدعون إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وافتتحت الجملة بالمسند إليه معرفاً بالإضافة ومستحضراً بصفة الربوبية لاستدعاء إقبال السامعين على الخبر المؤذن بأهميته حيث افتتح بما يترقب منه خبر عظيم لكونه من شؤون الإله الحق وخالق الخلق ومدبر شؤونهم تدبير اللطيف الرحيم، فيوجب إقبال السامع بِشَرَاشِرِه إن مؤمناً متذكراً أو مشركاً ناظراً متدبراً‏.‏

وجيء بالجملة الإسمية لدلالتها على الدوام والثبات‏.‏

وبتعريف طرفيها للدلالة على الانحصار، أي ربكم هو الذي يزجي لكم الفلك لا غيرُه ممن تعبدونه باطلاً وهو الذي لا يزال يفعل ذلك لكم‏.‏

وجيء بالصلة فعلاً مضارعاً للدلالة على تكرر ذلك وتحدده‏.‏ فحصلت في هذه الجملة على إيجازها معان جمة خصوصية‏.‏ وفي ذلك حد الإعجاز‏.‏

ويُزجي‏:‏ يسوق سوقاً بطيئاً شبه تسخير الفلك للسير في الماء بإزجاء الدابة المثقلة بالحمل‏.‏

والفلُك هنا جمع لا مفرد‏.‏ والبحر‏:‏ الماء الكثير فيشمل الأنهار كالفرات والدجلة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏

والابتغاء‏:‏ الطلب‏.‏ والفضل‏:‏ الرزق، أي للتجارة وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏ وهذا امتنان على الناس كلّهم مناسب لعموم الدعوة، لأنّ أهل مكة ما كانوا ينتفعون بركوب البحر وإنما ينتفع بذلك عرب اليمن وعرب العراق والناس غيرهم‏.‏

وجملة إنه كان بكم رحيماً‏}‏ تعليل وتنبيه لموقع الامتنان ليرفضوا عبادة غيره مما لا أثر له في هذه المنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

بعد أن ألزمهم الحجة على حق إلهية الله تعالى بما هو من خصائص صنعه باعترافهم، أعقبه بدليل آخر من أحوالهم المتضمنة إقرارهم بانفراده بالتصرف ثم بالتعجيب من مناقضة أنفسهم عند زوال اضطرارهم‏.‏

فجملة ‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه‏}‏ خبر مستعمل في التقرير وإلزام الحجة إذ لا يخبر أحد عن فعله إخباراً حقيقياً‏.‏

وجملة ‏{‏فلما نجاكم إلى البر أعرضتم‏}‏ خبر مستعمل في التعجيب والتوبيخ‏.‏

وضر البحر‏:‏ هو الإشراف على الغرق؛ لأنه يزعج النفوس خوفاً، فهو ضر لها‏.‏ و‏{‏ضل‏}‏ بضاد ساقطة فعل من الضلال، وهو سلوك طريق غير موصلة للمقصود خطأ‏.‏

والعدول إلى الموصولية لِما تؤذن به الصلة من عمل اللسان ليتأتى الإيجاز، أي من يتكرر دعاؤكم إياهم، كما يدل عليه المضارع‏.‏ فالمعنى غاب وانصرف ذكر الذين عادتكم دعاؤهم عن ألسنتكم فلا تدعونهم، وذلك بقرينة ذكر الدعاء هنا الذي متعلقه اللسان، فتعين أن ضلالهم هو ضلال ذكر أسمائهم، وهذا إيجاز بديع‏.‏

والاستثناء من عموم الموصول، لأن اسم الله مما يجري على ألسنتهم في الدعاء تارة كما تجري أسماء الأصنام، فالاستثناء متصل‏.‏

ويجوز أن يكون اسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏من تدعون‏}‏ خاصاً بأصنامهم لأنهم يكثر دعاؤهم إياها دون اسم الله تعالى، كما هو مقتضى التجدد فإذا اشتد بهم الضر دعوا الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏‏.‏ ويكون الاستثناء منقطعاً‏.‏ ونصب المستثنى لا يختلف في الوجهين جرياً على اللغة الفصحى‏.‏ ولعل هذا الوجه أرجح لأنه أنسب بقوله‏:‏ أعرضتم‏}‏‏.‏

والإعراض‏:‏ الترك، أي تركتم دعاء الله، بقرينة الجمع بين مقتضى المضارع من إفادة التجدد وبين مقتضى الاستثناء من انحصار الدعاء في الكون باسمه تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلى البر‏}‏ عدي بحرف ‏(‏إلى‏)‏ لتضمين ‏{‏نجاكم‏}‏ معنى أبلغكم وأوصلكم‏.‏

وجملة ‏{‏وكان الإنسان كفوراً‏}‏ اعتراض وتذييل لزيادة التعجب منهم ومن أمثالهم‏.‏ و«الكفور» صيغة مبالغة، أي كثير الكفر‏.‏ والكفر ضد الشكر‏.‏

والتعريف في ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الجنس وهو مفيد للاستغراق‏.‏ فهذا الاستغراق يجوز أن يكون استغراقاً عرفياً بحمله على غالب نوع الإنسان، وهم أهل الإشراك وهم أكثر الناس يومئذٍ، فتكون صيغة المبالغة من قوله‏:‏ ‏{‏كفوراً‏}‏ راجعة إلى قوة صفة الكفران أو عدم الشكر فإن أعلاه إشراك غير المنعم مع المنعم في نعمة لا حظ له فيها‏.‏

ويجوز أن يكون الاستغراق حقيقياً، أي كان نوع الإنسان كفوراً، أي غير خاللٍ من الكفران، فتكون صيغة المبالغة راجعة إلى كثرة أحوال الكفران مع تفاوتها‏.‏ وكثرة كفران الإنسان هي تكرر إعراضه عن الشكر في موضع الشكر ضلالاً أو سهواً أو غفلة لإسناده النعم إلى أسبابها المقارنة دون منعمها ولفرضه منعمين وهميين لا حظ لهم في الإنعام‏.‏

وذكر فعل ‏(‏كان‏)‏ إشارة إلى أن الكفران مستقر في جبلة هذا الإنسان، لأن الإنسان قلما يشعر بما وراء عالم الحس فإن الحواس تشغله بمدركاتها عن التفكر فيما عدا ذلك من المعاني المستقرة في الحافظة والمستنبطة بالفكر‏.‏

ولما كان الشكر على النعمة متوقفاً على تذكر النعمة كانت شواغله عن تذكر النعم الماضية مغطية عليها، ولأن مدركات الحواس منها الملائم للنفس وهو الغالب، ومنها المنافر لها‏.‏ فالإنسان إذا أدرك الملائم لم يشعر بقدره عنده لكثرة تكرره حتى صار عادة فذهل عما فيه من نفع، فإذا أدرك المنافر استذكر فقدان الملائم فضج وضجر‏.‏ وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 51‏]‏‏.‏ ولهذا قال الحكماء‏:‏ العافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى فهذا الاعتبار هو الذي أشارت له هذه الآية مع التي بعدها وهي ‏{‏أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 68‏]‏ الآية‏.‏ ومن أجل ذلك كان من آداب النفس في الشريعة تذكيرها بنعم الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وذكرهم بأيام الله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏ ليقوم ذكر النعمة مقام معاهدتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏أعرضتم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏، وما بينهما اعتراض، وفرع الاستفهام التوبيخي على إعراضهم عن الشكر وعودهم إلى الكفر‏.‏

والخسف‏:‏ انقلاب ظاهر الأرض في باطنها من الزلزال‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض‏}‏ في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وفي هذا تنبيه على أن السلامة في البر نعمة عظيمة تنسونها فلو حدث لكم خسف لهلكتم هلاكاً لا نجاة لكم منه بخلاف هول البحر‏.‏ ولكن لما كانت السلامة في البر غيرَ مُدرك قدرُها قلَّ أن تشعر النفوس بنعمتها وتشعر بخطر هول البحر فينبغي التدرب على تذكر نعمة السلامة من الضر ثم إن محل السلامة معرض إلى الأخطار‏.‏

والاستفهام بقوله‏:‏ أفأمنتم‏}‏ إنكاري وتوبيخي‏.‏

والجانب‏:‏ هو الشق‏.‏ وجعل البر جانباً لإرادة الشق الذي ينجيهم إليه، وهو الشاطئ الذي يرسون عليه، إشارة إلى إمكان حصول الخوف لهم بمجرد حلولهم بالبر بحيث يخسف بهم ذلك الشاطئ، أي أن البر والبحر في قدرة الله تعالى سيان، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في البر والبحر‏.‏ وإضافة الجانب إلى البر إضافة بيانية‏.‏

والباء في ‏{‏يخسف بكم‏}‏ لتعدية ‏{‏يخسف‏}‏ بمعنى المصاحبة‏.‏

والحاصب‏:‏ الرامي بالحصباء، وهي الحجارة‏.‏ يقال‏:‏ حصبه، وهو هنا صفة، أي يرسل عليكم عارضاً حاصباً، تشبيهاً له بالذي يرمي الحصباء، أي مطر حجارةٍ، أي بَرَد يشبه الحجارة، وقيل‏:‏ الحاصب هنا بمعنى ذي الحصباء، فصوغ اسم فاعل له من باب فاعل الذي هو بمعنى النسب مثل لاَبِننٍ وتَامِرٍ‏.‏

والوكيل‏:‏ الموكل إليه القيامُ بمهم موكله، والمدافع عن حق موكله، أي لا تجدوا لأنفسكم من يجادلنا عنكم أو يطالبنا بما ألحقناه بكم من الخسف أو الإهلاك بالحاصب، أي لا تجدوا من قومكم وأوليائكم من يثأر لكم كشأن من يلحقه ضر في قومه أن يدافِع عنه ويطالب بدمه أولياؤُه وعصابتُه‏.‏ وهذا المعنى مناسب لما يقع في البر من الحدثان‏.‏

و ‏(‏أم‏)‏ عاطفة الاستفهام، وهي للإضراب الانتقالي، أي بل أأمنتم، فالاستفهام مقدر مع ‏(‏أم‏)‏ لأنها خاصة به، أي أو هل كنتم آمنين من العود إلى ركوب البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح‏.‏

والتارة‏:‏ المرة المتكررة، قيل عينه همزة ثم خففت لكثرة الاستعمال‏.‏ وقيل‏:‏ هي واو‏.‏ والأول أظهر لوجوده مهموزاً وهم لا يهمزون حرف العلة في اللغة الفصحى، وأما تخفيف المهموز فكثير مثل‏:‏ فأس وفاس، وكأس وكاس‏.‏

ومعنى ‏{‏أن يعيدكم‏}‏ أن يُوجد فيكم الدواعي إلى العود تهيئة لإغراقكم وإرادة للانتقام منكم، كما يدل عليه السياق وتفريعُ ‏{‏فيرسل‏}‏ عليه‏.‏

والقاصف‏:‏ التي تقصف، أي تكسر‏.‏ وأصل القصف‏:‏ الكسر‏.‏ وغلب وصف الريح به‏.‏ فعومل معاملة الصفات المختصة بالمؤنث فلم يلحقوه علامة التأنيث، مثل ‏{‏عاصف‏}‏ في قوله‏:‏

‏{‏جاءتها ريح عاصف‏}‏ في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فيرسل عليكم ريحاً قاصفاً، أي تقصف الفلك، أي تعطبه بحيث يغرق، ولذلك قال‏:‏ فيغرقكم‏}‏‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏من الريح‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏من الرياح‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏

والباء في ‏{‏بما كفرتم‏}‏ للسببية‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي بكفركم، أي شرككم‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ للترتيب الرتبي كشأنها في عطفها الجمل‏.‏ وهو ارتقاء في التهديد بعدم وجود مُنقذ لهم، بعد تهديدهم بالغرق لأن الغريق قد يجدُ منقذاً‏.‏

والتبيع‏:‏ مبالغة في التابع، أي المتتبع غيره المطالب لاقتضاء شيء منه‏.‏ أي لا تجدوا من يسعى إليه ولا من يطالب لكم بثأر‏.‏

ووصف ‏(‏تبيع‏)‏ يناسب حال الضر الذي يلحقهم في البحر، لأن البحر لا يصل إليه رجال قبيلة القوم وأولياؤهم، فلو راموا الثأر لهم لركبوا البحر ليتابعوا آثار من ألحق بهم ضراً‏.‏ فلذلك قيل هنا ‏{‏تبيعا‏}‏ وقيل في التي قبلها ‏{‏وكيلاً‏}‏ كما تقدم‏.‏

وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إما إلى الإغراق المفهوم من ‏{‏يغرقكم‏}‏، وإما إلى المذكور من إرسال القاصف وغيره‏.‏

وقرأ الجمهور ألفاظ ‏{‏يخسف‏}‏ و‏{‏يرسل‏}‏ و‏{‏يعيدكم‏}‏ و‏{‏فيرسل‏}‏ و‏{‏فيغرقكم‏}‏ خمسُتها بالياء التحتية‏.‏ وقرأها ابن كثير وأبو عمرو بنون العظمة على الالتفات من ضمير الغيبة الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فلما نجاكم إلى البر‏}‏ إلى ضمير التكلم‏.‏ وقرأ أبو جعفر ورويس عن يعقوب ‏{‏فتغرقكم‏}‏ بمثناة فوقية‏.‏ والضمير عائد إلى ‏{‏الريح‏}‏ على اعتبار التأنيث، أو ‏{‏على الرياح‏}‏ على قراءة أبي جعفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

اعتراض جاء بمناسبة العِبرة والمنة على المشركين، فاعترض بذكر نعمته على جميع الناس فأشبه التذييل لأنه ذُكر به ما يشمل ما تقدم‏.‏

والمراد ببني آدم جميع النوع، فالأوصاف المثبتة هنا إنما هي أحكام للنوع من حيث هو كما هو شأن الأحكام التي تسند إلى الجماعات‏.‏

وقد جمعت الآية خمس مِنن‏:‏ التكريم، وتسخير المراكب في البر، وتسخير المراكب في البحر، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات‏.‏

فأما منة التكريم فهي مزية خص بها الله بني آدم من بين سائر المخلوقات الأرضية‏.‏

والتكريم‏:‏ جعله كريماً، أي نفيساً غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه وفي بشرته، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ولا اللباس ولا ترفيه المضجع والمأكل ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضره ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها والقبائح فيسترها ويدفعها، بله الخلو عن المعارف والصنائع وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته‏.‏ وقد مثل ابن عباس للتكريم بأن الإنسان يأكل بأصابعه، يريد أنه لا ينتهش الطعام بفمه بل برفعه إلى فيه بيده ولا يكرع في الماء بل يرفعه إلى فيه بيده، فإن رفع الطعام بمغرفة والشراب بقدح فذلك من زيادة التكريم وهو تناول باليد‏.‏

والحمل‏:‏ الوضع على المركب من الرواحل‏.‏ فالراكب محمول على المركوب‏.‏ وأصله في ركوب البر، وذلك بأن سخر لهم الرواحل وألهمهم استعمالها‏.‏

وأما الحمل في البحر فهو الحصول في داخل السفينة‏.‏ وإطلاق الحمل على ذلك الحصول استعارة من الحمل على الراحلة وشاعت حتى صارت كالحقيقة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ومعنى حمل الله الناس في البحر‏:‏ إلهامه إياهم استعمال السفن والقلوع والمجاذيف، فجعل تيسير ذلك كالحمل‏.‏

وأما الرزق من الطيبات فلأن الله تعالى ألهم الإنسان أن يطعَم ما يشاء مما يروق له، وجعل في الطعوم أمارات على النفع، وجعل ما يتناوله الإنسان من المطعومات أكثر جداً مما يتناوله غيره من الحيوان الذي لا يأكل إلا أشياء اعتادها، على أن أقرب الحيوان إلى الإنسية والحضارة أكثرها اتساعاً في تناول الطعوم‏.‏

وأما التفضيل على كثير من المخلوقات، فالمراد به التفضيل المشاهد لأنه موضع الامتنان‏.‏ وذلك الذي جُماعه تمكين الإنسان من التسلط على جميع المخلوقات الأرضية برأيه وحيلته، وكفى بذلك تفضيلاً على البقية‏.‏

والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص؛ فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره، على أنه فضله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم، هذا هو التفضيل المراد‏.‏

وأما نسبة التفاضل بين نوع الإنسان وأنواع من الموجودات الخفية عنا كالملائكة والجن فليست بمقصودة هنا وإنما تعرف بأدلة توقيفية من قِبل الشريعة‏.‏ فلا تفرض هنا مسألة التفضيل بين البشر والملائكة المختلف في تفاصيلها بيننا وبين المعتزلة‏.‏ وقد فرضها الزمخشري هنا على عادته من التحكك على أهل السنّة والتعسف لإرغام القرآن على تأييد مذهبه، وقد تجاوز حد الأدب في هذه المسألة في هذا المقام، فاستوجب الغضاضة والملام‏.‏

ولا شك أن إقحام لفظ كثير‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفضلانهم في كثير ممن خلقنا‏}‏ مراد منه التقييد والاحتراز والتعليم الذي لا غرور فيه، فيعلم منه أن ثَم مخلوقات غير مفضل عليها بنو آدم تكون مساوية أو أفضل إجمالاً أو تفصيلاً، وتبيينه يُتلقى من الشريعة فيما بينته من ذلك، وما سكتت فلا نبحث عنه‏.‏

والإتيان بالمفعول المطلق في قوله‏:‏ ‏{‏تفضيلاً‏}‏ لإفادة ما في التنكير من التعظيم، أي تفضيلاً كبيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 66 69‏]‏ إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيراً وإنذاراً، فالكلام استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمتَ‏.‏ ولا يحسن لفظ ‏(‏يومَ‏)‏ للتعلق بما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏ على أن يكون تخلصاً من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافاً ابتدائياً، ففتحة ‏{‏يوم‏}‏ إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فِعل «اذكر» فيكون ‏{‏يوم‏}‏ هنا اسمَ زمان مفعولاً للفعل المقدر وليس ظرفاً‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فمن أوتي‏}‏ للتفريع لأن فعْل ‏(‏اذكر‏)‏ المقدر يقتضي أمراً عظيماً مجملاً فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال‏.‏

وإما أن تكون فتحته فتحةَ بناء لإضافته اسم الزمان إلى الفعل، وهو إما في محل رفع بالابتداء، وخبره جملة ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه‏}‏‏.‏ وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش، وقد حكى ابن هشام عن ابن بَرهان أن الفاء تزاد في الخبر عند جميع البصريين ما عدا سيبويه؛ وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده، أعني قوله‏:‏ ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأضل سبيلاً‏}‏‏.‏ وتقدير المحذوف‏:‏ تتفاوت الناس وتتغابَن‏.‏ وبُيّن تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فمن أوتي كتابه‏}‏ الخ‏.‏

والإمام‏:‏ ما يؤتم به، أي يُعمل على مِثل عمله أو سيرته‏.‏ والمراد به هنا مبين الدين‏:‏ من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة‏.‏

ومعنى دعاء الناس أن يُدعى يا أمةَ فلان ويا أتباعَ فلان، مثل‏:‏ يا أمة محمد، يا أمةَ موسى، يا أمة عيسى، ومثل‏:‏ يا أمة زَرادشت‏.‏ ويا أمةَ برْهَما، ويا أمةَ بُوذا، ومثل‏:‏ يا عبدة العزى، يا عبدة بَعل، يا عبدةَ نَسْر‏.‏

والباء لتعدية فعل ‏{‏ندعوا‏}‏ لأنه يتعدى بالباء، يقال‏:‏ دعوته بكنيته وتدَاعَوا بِشعارهِم‏.‏

وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيلُ بالمسرة لاتباع الهُداة وبالمساءة لاتباع الغُواة، لأنهم إذا دُعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم‏.‏

وفرع على هذا قوله‏:‏ ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه‏}‏ تفريع التفصيل لما أجمله قوله‏:‏ ‏{‏ندعوا كل أناس بإمامهم‏}‏، أي ومن الناس من يُؤتى كتابه، أي كتاب أعماله بيمينه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن أوتي‏}‏ عطف على مقدر يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏ندعوا كل أناس بإمامهم‏}‏ أي فيؤتَوْن كتبهم، أي صحائف أعمالهم‏.‏

وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين‏.‏ وتلك علامة عناية بالمأخوذ، لأن اليمين يأخذ بها من يعْزم عملاً عظيماً قال تعالى‏:‏

‏{‏لأخذنا منه باليمين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 45‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقاها الرحمان بيَمينه وكلتَا يديْه يَمين‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الخ، وقال الشمّاخ‏:‏

إذا ما رايةٌ رفعت لمجد *** تلقاها عَرابة باليمين

وأما أهل الشقاوة فيؤتَون كتبهم بشمائلهم، كما في آية ‏[‏الحاقة‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه‏}‏

والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب ‏(‏أما‏)‏، للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرؤون كتابهم، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخَير والجزاء عليْه مسرة لهم ونعيماً بتذكر ومعرفة ثوابه، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم، فتوفرُ الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة‏.‏

وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا‏.‏ وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة ‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13 14‏]‏‏.‏

والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏، لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازاً مرسلاً‏.‏ ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده‏.‏

والفتيل‏:‏ شبه الخَيط تكون في شق النواة وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 49‏]‏، وهو مثَل للشيء الحقير التافه، أي لا ينقصون شيئاً ولو قليلاً جداً‏.‏

وعطف ومن كان في هذه أعمى‏}‏ عطف القسيم على قسيمه فهو من حَيز «أما» التفصيلية، والتقدير‏:‏ وأما من كان في هذه أعمى، ولما كان القسيم المعطوف عليه هم من أوتوا كتابهم باليمين علم أن المعطوف بضد ذلك يؤتى كتابه بالشمال فاستغني عن ذكر ذلك وأتي له بصلة أخرى وهي كونه أعمى حكماً آخر من أحواله الفظيعة في ذلك اليوم‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هذه‏}‏ إلى معلوم من المقام وهو الدنيا، وله نظائر في القرآن‏.‏ والمراد بالعمى في الدنيا الضلالة في الدين، أطلق عليها العمى على وجه الاستعارة‏.‏

والمراد بالعمى في الآخرة ما ينشأ عن العمى من الحيرة واضطراب البال، فالأعْمَى أيضاً مستعار لمشابه الأعمى بإحدى العلاقتين‏.‏

ووصف ‏{‏أعمى‏}‏ في المرتين مراد به مجرد الوصف لا التفضيل‏.‏ ولما كان وجه الشبه في أحوال الكافر في الآخرة أقوى منه في حاله في الدنيا أشير إلى شدة تلك الحالة بقوله‏:‏ ‏{‏وأضل سبيلاً‏}‏ القائم مقام صيغة التفضيل في العمَى لكون وصف ‏(‏أعمى‏)‏ غير قابل لأن يصاغ بصيغة التفضيل لأنه جاء بصيغة التفضيل في حال الوصف‏.‏

وعدل عن لفظ ‏(‏أشد‏)‏ ونحوه ما يتوسل به إلى التفضيل عند تعذر اشتقاق صيغة ‏(‏أفعل‏)‏ ليتأتى ذكر السبيل، لما في الضلال عن السبيل من تمثيل حال العمى وإيضاحه، لأن ضلال فاقد البصر عن الطريق في حال السير أشد وقعاً في الأضرار منه وهو قابع بمكانه، فعدل عن اللفظ الوجيز إلى التركيب المطنب لما في الإطناب من تمثيل الحال وإيضاحه وإفظاعه وهو إطناب بديع‏.‏ وقد أفيد بذلك أن عماه في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل‏.‏ ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره‏.‏ فالمعنى‏:‏ وأضل سبيلا منه في الدنيا‏.‏

ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خلياً عن لحاق الألم به، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاصَ منه وهو مقارن للعذاب الدائم، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

حكاية فن من أفانين ضلالهم وعماهم في الدنيا، فالجملة عطف على جملة ‏{‏ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 72‏]‏، وهو انتقال من وصف حالهم وإبطال مقالهم في تكذيب النبي إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم، وهي حال طَمعهم في أن يستنزلوا النبي لأن يقول قولاً فيه حسن ذكر لآلهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه‏.‏

وضمائر الغيبة مراد منها كفار قريش، أي مُتولوا تدبيرَ أمورهم‏.‏

وغُيّر الأسلوب من خطابهم في آيات ‏{‏ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 66‏]‏ إلى الإقبال على خطاب النبي لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان‏.‏

والفتْن والفتون‏:‏ معاملةُ يلحق منها ضُرّ واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها، من تغلب على القوة وعلى الفِكر، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏‏.‏

وعدي يفتنونك‏}‏ بحرف ‏(‏عَن‏)‏ لتضمينه معنى فعللٍ كان الفَتن لأجله، وهو ما فيه معنى ‏(‏يصرفونك‏)‏‏.‏

والذي أوحي إليه هو القرآن‏.‏

هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون‏.‏

وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف‏.‏ ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسويهم مع من يعُدّونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل‏:‏ بلال، وعمار بن ياسر، وخباب، وصهيب، وأنهم وعدوا النبي إن هو فعل ذلك؛ بأن يجلسوا إليه ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم، وأن رسول الله هم بأن يُظهر لهم بعض اللين رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون، فيكون المراد من ‏{‏الذي أوحينا إليك‏}‏ بعض الذي أوحينا إليك، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏، أو ما فيه تنقيص الأصنام‏.‏

وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاقّ ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار‏.‏ وإذ قد ملئت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول‏:‏

إن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في اقترابهم من الإسلام وفي تأمين المسلمين، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو إنظارهم؛ أو أرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين، وليس فيه فوات شيء على المسلمين، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه‏.‏

فالموصول في قوله‏:‏ ‏{‏الذي أوحينا إليك‏}‏ للعهد لما هو معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته‏.‏ فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبي بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد، ومساقَ إظهار مَلَل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية وتخوفهم من عواقبها، وفي ذلك تثبيت للنبيء وللمؤمنين وتأييس للمشركين بأن ذلك لن يكون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتفترى علينا غيره‏}‏ متعلق ب ‏{‏يفتنونك‏}‏، واللام للعلة، أي يفعلون ذلك إضماراً منهم وطمعاً في أن يفتري علينا غيره، أي غير ما أوحي إليك‏.‏ وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبي من سؤال إلى آخر، فهو راجع إلى نياتهم‏.‏ وليس في الكلام ما يقتضي أن النبي عليه الصلاة والسلام همّ بذلك كما فهمه بعض الفسرين، إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ولا تقتضي غرض المفعول ولا علمه‏.‏

و ‏(‏إنْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏ مخففة من ‏(‏إن‏)‏ المشددة واسمها ضمير شأن محذوف، واللام في ‏{‏ليفتنونك‏}‏ هي اللام الفارقة بين ‏(‏إن‏)‏ المخففة من الثقيلة وبين ‏(‏إنْ‏)‏ النافية فلا تقتضي تأكيداً للجملة‏.‏

وجملة ‏{‏وإذا لاتخذوك خليلاً‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏‏.‏ و‏(‏إذاً‏)‏ حرف جزاء والنُّون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل ‏{‏يفتنونك‏}‏ بما معه من المتعلقات مقحماً بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع ‏(‏إذا‏)‏ مفيدة معنى فاء التفريع‏.‏

ووجه عطفها بالواو دون الاقتصار على حرف الجزاء لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبي عليه الصلاة والسلام فيها وألحوا عليه فناسب أن يعطف على جملة أحوالهم‏.‏ والتقدير‏:‏ فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلاً‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لاتخذوك‏}‏ اللام الموطئة للقسم لأن الكلام على تقدير الشرط، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلاً‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لاتخذوك‏}‏ لام جواب ‏(‏لو‏)‏ إذ كان فعلاً ماضياً مثبتاً‏.‏

والخليل‏:‏ الصديق‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏